التيار (باماكو) - تشهد العلاقات بين الجزائر ودول تحالف الساحل (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) توترا متصاعدا، يظهر حدود التفاهم بين منطلقات سيادية متباينة ورؤى متنافرة للأمن الإقليمي، فالأزمة الدبلوماسية التي اندلعت على خلفية إسقاط طائرة مسيرة تابعة للجيش المالي فوق الحدود الجزائرية، لم تكن حادثا معزولا، بقدر ما كانت تعبيرا مكثفا عن أزمة أعمق تتعلق بإعادة ترتيب موازين النفوذ في منطقة الساحل.
فالموقف الجزائري – القائم على اعتبار اختراق طائرة بدون طيار لأجوائه “عدوانا على سيادته” – قابله تحالف دول الساحل باتهام مباشر للجزائر بمحاولة إرباك جهود مكافحة الإرهاب، واعتبر أن استهداف الطائرة يشكل “استهدافا جماعيا” للدول الثلاث.
في المقابل، رأت الجزائر في هذا التصعيد تماهيا مقلقا للنيجر وبوركينا فاسو مع خطاب باماكو، ما دفعها إلى اتخاذ خطوات تصعيدية شملت سحب سفرائها، وتجميد التمثيل الدبلوماسي، وإغلاق المجال الجوي أمام الطيران المالي.
لكن هذه القرارات، على حدتها، لا يمكن فصلها عن سياق إقليمي أوسع؛ فانسحاب مالي من اتفاق الجزائر عام 2015 مثل بداية تصدع هيكلي في العلاقة الثنائية، وغياب الثقة السياسية زاد من هشاشة التعاون الأمني والعسكري في منطقة تعاني من تغول الجماعات المسلحة وتفكك المنظومات المركزية.
المؤشرات الحالية لا توحي بانفجار وشيك للأزمة، لكنها تكشف عن هشاشة مقلقة في آليات التفاهم بين الجزائر ودول الساحل، فرغم التصعيد، لا تزال بعض قنوات الاتصال مفتوحة، والديناميات الدبلوماسية لم تقفل نهائيا، بدليل استمرار بعض أشكال التواصل الديني والثقافي، مثل استقبال وجهاء من الزوايا الصوفية الجزائرية في بوركينا فاسو، ما يدل على رغبة ضمنية في إبقاء العلاقات تحت سقف السيطرة.
ورغم أن المواجهة تقدم بلبوس قانوني – اختراق سيادة جوية مقابل “حق الرد” – إلا أن خلفياتها ترتبط بصراع أعمق حول من يملك زمام المبادرة في هندسة الأمن الإقليمي، خصوصا بعد نشوء تكتلات جديدة (مثل تحالف دول الساحل) تتبنى رؤية مغايرة للمقاربات التقليدية في المنطقة، وتبحث عن تموضع جديد في فضاء تتعدد فيه المصالح وتتنافر فيه المشاريع.
في ظل هذا التوتر، الذي استثمرت فيه عدة أطراف قليمية ودولية، تبدو الحاجة ماسة إلى وساطات فعالة تضع حدا للتدهور المتسارع، ويمكن لفاعلين إقليميين ودوليين لعب أدوار محورية في هذا الصدد. فالرئيس الغاني الأسبق جون ماهاما، الذي يضطلع بمهمة المبعوث الخاص للاتحاد الإفريقي إلى تحالف دول الساحل، يمتلك هامش تحرك مقبولا لدى الأطراف، كما أن أنغولا، عبر رئيسها جواو لورينسو، أظهرت مؤخرا قدرة ملموسة على الوساطة، بعد نجاحها في تسوية ملف عائلة الرئيس الغابوني السابق علي بونغو، كما يمكن للرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني لعب دور محوري في حل الأزمة نتيجة لعلاقاته الممتازة مع مختلف أطرافها.
وإلى جانب ذلك، تملك جنوب إفريقيا مؤهلات دبلوماسية تمنحها هي الأخرى لعب دور إيجابي، نتيجة علاقات متوازنة مع الجزائر وباماكو، وموقعها ضمن تكتل البريكس، وخطاب سياسي يتبنى التعددية الدولية ويرفض الاصطفاف.
هذه المعطيات تجعل من بريتوريا مرشحا جديا للعب دور تهدئة خلف الكواليس، يفضي إلى إعادة بعث اللجنة العسكرية المشتركة بين مالي والجزائر، التي جمدت منذ يناير 2023 بعد أن كانت تعقد اجتماعات سنوية منذ 2006.
يرى كثير من المراقبين أن الأزمة الحالية تمثل لحظة اختبار لقدرة الأطراف الإقليمية على تغليب أدوات التفاوض على منطق القطيعة، فالمعركة الحقيقية التي ينبغي أن تخاض ليست ضد بعضهم البعض، بل ضد الجماعات المسلحة التي تستفيد من أي فراغ تنسيقي.
ولهذا، فإن استئناف الحوار، حتى من خارج القنوات الرسمية، هو الخيار الوحيد الذي يمكنه تجنيب المنطقة مزيدا من الهشاشة.
ولأن ما على المحك ليس مجرد خلاف حدودي، بل مصير منطقة الساحل بكاملها في فترة تتنازعها الأجندات والمصالح الدولية.