عندما أعلن عن زيارة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى الحوض الشرقي، ثارت أسئلة كثيرة من قبيل: ما الذي سيقوله غزواني بعد عام واحد من انتخابه لمأمورية ثانية؟ ما الذي استجد بعد لقاءاته بالمواطنين خلال الحملة الانتخابية التي بالكاد مضى عليها عام؟ وما ذا يفعله الرئيس بلقاء الجماهير وهو لا يحتاج شعبية، ولا يطلب أصوات الناخبين؟
وحين قفل الرئيس غزواني راجعا من ولاية الحوض الشرقي، بعد تسعة أيام قضاها متنقلا بين مقاطعات الولاية، كانت كل الأسئلة التي طرحت عند بداية الزيارة قد تلاشت إلى غير رجعة.
لم يعد خافيا ما الذي كان الرئيس ينوي قوله، وقد قاله بالصيغة الأبلغ والحجة الأوضح؛ اختار رسالته في كل محطة وصاغها بعناية تفصل الألفاظ على المعاني، حتى لا يفضل لفظ عن معنى، ولا يحتاج لإيضاح معنى.
الناظر في عيونهم
كانت الرسالة العميقة التي قالتها الزيارة عند إعلانها، هي أن هذا الرجل الذي انتخبتموه قبل عام وفق رؤية وبرنامج، لا يتوارى عنكم الآن خلف إدارة، ولا حكومة، ولا يتجاهل تعهداته التي قطع أمامكم. إنه ينظر في عيونكم الآن بعد عام ليقول إن بيننا عهدا، وأنا موف بجانبي منه، ولم أقل لكم كلاما للتأثير على قراركم الانتخابي، وإنما شرحت لكم مشروعا، وتعهدت لكم بعمل، وأنا على الوفاء بما وعدت. أنا وأنتم ماضون على الطريق الذي رسمنا معا.
نظر في عيونهم لأنهم لا يطالبونه بدين، ولا ينظر إلى التزاماته تجاه المواطنين على أنها ديون تثقل كاهله؛ بل واجبات هي عمله الأساسي، وقد بدأها بحزمة المشاريع التي أطلق من عاصمة الولاية، في يومه الأول.
لكن اتضح أن الرجل لديه ما يقوله مع المشاريع التنموية، رغم أهمية ما أطلق منها، ومحوريته في مستقبل المنطقة وموطنيها؛ فهو عازم على تفسير نهجه في تغيير العقليات والمسلكيات، متشبث بالمضي في إصلاح جذري للبنية الفكرية للإنسان الموريتاني، تنقله إلى وضع تكون فيه التنمية "تحصيل حاصل"، ويكون أداء الواجب الوطني سلوكا تلقائيا للقائمين على الشأن العام.
الزيارة الأولى
كانت زيارة الرئيس غزواني للحوض الشرقي هي الأولى من نوعها لاعتبارات كثيرة؛ فهي، في حدود ما نعرف، أطول زيارة يقوم بها رئيس موريتاني لولاية الحوض الشرقي، وهو ما وفر وقتا هائلا للمعنيين للتعبير عن مشاغلهم العامة، وبعض الخاصة، أمام الهرم الأعلى في قيادة البلاد. وفي لقاءاته كانت أكبر مساحة حرية للتعبير عن انشغالات المواطنين، فلم تخضع المداخلات للفلترة، وطرحت فيها مطالب أقرب إلى الرأي المعارض، دون مصادرة، أو تدخل أو مضايقة.
وقد أبان نهج غزواني في التعامل مع خطاب المواطنين، وإلزامه الوزراء بالرد والتعليق الفني، ثم إعطاء الأوامر والتوجيهات بمعالجة الاختلالات بعد الوقوف عليها؛ أبان كل ذلك عن طريقة جديدة في قيادة البلاد؛ فهذا الرئيس الذي يقودنا اليوم قائد يحكم، وليس مديرا منغمسا في اليوميات وإعطاء الأوامر التفصيلية، وهو نمط من المؤسسية الرئاسية جديد علينا، وقد صمم الرئيس على ترسيخه منذ وصوله إلى السلطة قبل ست سنوات.
وقد أبانت المداخلات الفنية للوزراء أن المشاريع التنموية التي أطلق الرئيس تفوق أحيانا بعض مطامح الساكنة، وستقفز، في جوانب منها، بالتنمية في عموم البلاد قفزة لا عهد لها بها؛ خاصة في مجالي الخدمات، والبنية الاقتصادية. إن حل مشاكل الطاقة، والطرق، والتعليم، والصحة والمياه، ستأخذ معها إلى الحل مشاكل البطالة، والوحدة الوطنية، واستقرار المواطنين في بيئاتهم، والتنمية المحلية… وهي كلها مشاريع أطلقها الرئيس غزواني خلال زيارته للحوض الشرقي، إطلاقا فعليا، ستظهر آثاره خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة.
خط النار السياسي والإداري
وفق الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في تنويع الرسائل، وتوزيعها على محطات الزيارة بعمق، ودقة منقطعي النظير، لكنه اختار لاثنتين منها ختام الزيارة لتكونا كلمتي وداع تبقيان بعد الزيارة، وترسخان في نفوس الساكنة، وكل المواطنين، والمراقبين.
الرسالة الأولى؛ خط النار السياسي الذي اختار الرئيس لرسمه العاصمة السياسية للولاية، مقاطعة تمبدغه، وفيها حسم الرئيس الجدل بشأن التداول غير الأخلاقي وغير المسؤول، في موضوع الترشحات للرئاسيات القادمة.
ومع وضوح الرسالة فإن صيغتها لم تلق التركيز والعناية المطلوبين؛ فحين يقول الرئيس إن الانشغال بالتفكير في الانتخابات الرئاسية اليوم، وخوض الحملة، تصريحا، أو تلميحا، مباشرة أو بالوكالة، "يضر صاحبه اليوم وغدا"، فالواضح أنه يقول له إنك تصول وتجول بالإمكانات التي وضعنا تحت تصرفك لتخدم بها المواطنين، وتحقق بها جزءا من النهضة التي نعمل عليها، وحين نحرمك منها ستفقد أهم مقوم يخولك التحرك في هذه الظروف.
إن الذي يجعل لك أنصارا، ويعطيك منبرا لمخاطبتهم هو الوظيفة التي قدمناك لها، لتخدم البرنامج الذي تعاقدنا عليه مع الشعب الموريتاني، وحين تغادر هذه الوظيفة، سيتهاوى المنبر من تحت قدميك، وتفقد الجمهور الذي تخاطب. هذا عن اليوم.
"وغدا"؟ في النظام الرئاسي الذي يحكم موريتانيا تعتبر أهم تزكية يمكن الحصول عليها، وأغلى ورقة بيد من يخوضون الاستحقاقات أيا تكن طبيعتها، هي ترشيح القيادة؛ وأهم فاعل في تلك القيادة هو رئيس الجمهورية، فهل يعقل أن رئيسا يمنح الصلاحيات، والوظائف، والإمكانات من أجل تنفيذ برنامج يعتبره التزاما شخصيا، ثم يزكي غدا من يخون هذا البرنامج، أو يتشاغل عنه باستحقاقات لم يحن وقتها، ولم تأت لحظتها!؟
هذا خط النار السياسي الذي رسمه الرئيس المحنك، في جمل معدودة، ولكنها مكتنزة، وذات حمولة يمكن أن تمتد إلى أبعد مما امتدّت إليه اعناق الطامحين.
خط النار الثاني رسمت معالمه الخلاصة التي قدم الرئيس غزواني في مقاطعة "جكني"؛ ففي هدوء غير متكلف، قدم الرجل ملخصا لمجهود مكافحة الفساد، الذي قامت به مؤسسات تمت تقويتها، وتمكينها من صلاحياتها، وتحميلها مسؤوليتها، ولم يقم به رئيس يأمر وينهى على نهج الزعماء الشعبويين.
اختار الرجل أن يعطي الخلاصة الصادمة؛ منذ عشرة أشهر، هناك ملفات بمعدل ملف كل شهر، هذه الملفات سجن بسببها حتى الآن 39 شخصا، استفاد بعضهم من حرية مؤقتة، وما زالت ملفات ثلاثين منهم على مستوى النيابة.. كل هذا دون كلمة إهانة بحق أحد، أو عنتريات خطابية، ودون أي انسياق وراء خطابات التخوين.
إنها الرسالة الأبلغ، والرد الأكثر وضوحا بالنسبة لمن يرغبون في سماع الأشياء كما هي، وهي التعقيب الموفق على ما أثاره تقرير محكمة الحسابات من لغط، وما تبع إجراءات الحكومة بحق المشمولين في الملف من ضجيج.
إعادة توجيه الأنظار
ترجمت الحشود غير المسبوقة التي استقبلت الرئيس غزواني في كل محطات الزيارة عن استمرار تصاعد التأييد الشعبي الذي يحظى به الرجل، لكن الخطابات التي ألقى جعلت المواطنين في العاصمة، وفي مدن موريتانيا المختلفة، وفي المهاجر، تستقبله في كل محطة من محطات الزيارة، وحتى المحسوبون على النخب المعارضة تمنوا استمرار الزيارة لسماع المزيد مما انتظروه من رئيس يقودهم.
لقد استطاع الرئيس غزواني أن يخلق المفاجأة في كل محطة من محطات الزيارة، فتحولت الزيارة برمتها إلى مفاجأة على المستوى الوطني، أعطت للزيارات الرئاسية معنى، وأعادت توجيه العيون والآذان شطر المقام الرئاسي، باعتباره منبع التوجيه، ومعقد الحسم في القضايا المصيرية للأمة.



