من الاشوار التي نالت شهرة واستحسانا بفضل الأداء المتميّز لربّة "الصَّوت والصِّيت" ديمي رحمها الله، اشوير "دلنو غادي"، وقد نسجت حول هذا الشور قصص من خيال الأدباء، أضفت عليه بعدا اسطوريا ونفسا رومانسيا زاده حُسنا وبهاء.
ولذلك ليس هدف هذه الخاطرة نفي تلك القصص ولا إخضاعها لتشريح المؤرّخ، فالأدب كالزهرة تُشَمُّ بلُطْف ولا تُفْرَك.
وإنما القصد إعادة الشور إلى أهله، إلى عاصمة الثقافة الحسانية بلا منازع، حاضرة تمبدغه حرسها الله، فهذا الشور وغيره كثير، هو من إنتاج المدرسة الفنية العظيمة التي ازدهرت في تمبدغه في النصف الأول من القرن العشرين، في تفاعل متصل مع الأحداث التي كانت تجري.
من هو دلنو ؟
دلنو حاكم فرنسي اسمه الكامل، Francois de la Noue، وهو سَمِيُّ أحد أبطال فرنسا الذين اشتهروا، بحسن بلائهم في الحروب الدينية التي مزّقت الممالك المسيحية الأوروبية، في القرن السادس عشر، ولعل صاحبنا من نَسل هذا البطل.
بتتبع الوثائق الاستعمارية، نجد أن دَلَنُو وصل إلى الحوض الشرقي سنة 1935، مُحَوّلا من النّواره، حين عُيِّنَ عميلا خاصا في دائرة النعمة، ووكل إليه بعض الأعمال اللأمنية والإدارية، ثم ما لبث أن عُيّن حاكما لمقاطعة تمبدغه، حيث كان يتولى كل شؤونها الإدارية والأمنية، ورغم فترات انقطاع قصيرة، ظل دلنو حاكما لتمبدغه بشكل شبه متصل حتى سنة 1944 حيث نجده عضوا في لجنة تقييم تم تشكيلها لامتحان المعلّم تيكورا دَمْبَلَى، معلم مدرسة تمبدغه الشهير.
وقد كان دمبلى هذا ممن يوصف بالعقل والحنكة، ومن طرائفه أنه كان في مجلس في اندر، وفي المجلس زميله المرحوم العلامة ابَّ ولد انّ، فجرى بينهم حديث بالفرنسية، فقال دمبلى لابَّ : إنك تتقن العربية إتقانا كبيرا، فاستغرب الناس وقالوا له وكيف عرفت ذلك وأنت لا تتكلم العربية، قال إنما عرفته من طبيعة المعاني والأساليب التي تستخدم في الفرنسية، والتي تدل على رسوخ ثقافتك العربية. فاستحسن الناس ذكاءه وفطنته. ولا أدري هل دمبلى هذا، جدُّ عثمان دبملى الللاعب الشهير الذي له أصول موريتانية.
بالعودة إلى دلنو نجد أنه تم نقله إداريا مع كل العاملين في تمبدغه إلى السلطات الإدارية الموريتانية بعد توحيد البلاد وضم الحوضين إلى موريتانيا 1945، ولكنه ترشح بعدها بقليل لدورة تكوينية في فرنسا، وانقطع خبره حتى سنة 1958 حيث نجده حاكما لبعض مقاطعات السودان الفرنسي (مالي).
أهم ما ميّز ولاية دلنو في تمبدغه هي أنها صادفت إحدى أكثر الفترات خطورة، حيث عاصر فتنة أم الشقاق ونتائجها الاجتماعية والسياسية الكبرى والحرب العالمية الثانية ونتائجها الاقتصادية المهمة. وقد كانت الأحوال المضطربة تقتضي من الإدارة الفرنسية كثيرا من الحزم في مواجهة كل ما يعتبرونه عامل زعزعة لوجودهم المهتز أصلا بفعل الظروف الدولية.
وقد تولى دلنو بوصفه حاكما لتمبدغه وبشكل خاص بصفته المسؤول الأمني للمنطقة مسؤولية تتبع كل الأشخاص المطلوبين لدى المستعمر من أنصار الحموية وغيرهم ممن كان المستعمر يتهمهم بإثارة الشغب والفتن. وقد عرف عنه في هذا الصدد كثير من الصرامة والشدة والبطش.
وقد تعرض دلنو لكثير من رجالات المجتمع وجرت بينه وبينهم قضايا وأمور، وقد جرى بينه وبين شيخنا الشيخ المحفوظ بن بيه رضي الله عنه، جفوة وعداء، فكفاه الله شرّه، ولم يجد إليه سبيلا، ومن موجب ذلك أن شيخنا كان يحدب على ضعفاء المسلمين ويحميهم ممن يهتضمونهم من الموظفين في حاشية الحاكم الفرنسي، والذين كانوا ينتزعون أموالهم ويتسلطون على حقوقهم، فكان المظلومون يلجؤون إلى شيخنا وهو القاضي فيدخلون في حماه، مما يجعله في مواجهة هؤلاء المتسلّطين.
ومن قصص دلنو الدالة على منهجه أيام الفتنة، أنه بلغ الفرنسيين أن بعض المطلوبين قد جاؤوا إلى قرية شيخنا "الغليق- أزواز" فركب وفد من السلطة برئاسة دلنو ومعه بعض أعوانه، وأغذُّوا السير نحو الغليق فبلغ أهل الغليق خبرَهم قبل وصولهم، وكان المتولي أمرَ الزاوية في غياب شيخنا مُريده المخلص حمودي ولد الطّلبه رحمه الله، فأرسل فارسا بسرعة إلى الأشخاص المطلوبين وكانوا حينها في قرية "أدباي" توف، وأخبرهم أن الفرنسيين قادمون، فليلوذوا بالفرار.
فلما وصل الحاكم وأعوانه تظاهر حمُّودي بالنوم، فنادوه مرارا حتى استيقظ وقام إليهم يمْسَح وجهه وكأنه كان يغطُّ في نومه، فزجره المترجم وقال "هل تحسبنا بلداء، والله ما كنت نائما، أخبرني ما شأن الفارس الذي خرج من عندكم قبل ساعة إلى أين أرسلتموه؟" فأنكر حمودي أن يكون له علم بفارس خرج من القرية وبات المترجم وزبانيته يحققون معه الليل كله وهو مصر على الإنكار ويداريهم بالكلام الطيب وبالتبجيل للمترجم حتى يئسوا منه ورجعوا خائبين. فكانت إحدى أشدّ الليالي على أهل قريتنا.
دلنو إذن هو المقصود في هذا الشور، الذي لعله يرجع إلى حدود سنة 1940، غنته بنات النانه، وبنتهم "فاطمة منت عو". ولم يكن دلنو شخصا محبوبا بل كان يمثل السلطة المحتلة الغاشمة، ولذلك فهو شور يحمل طابع تهكميا، وليس طابعا تمجيديا، عكس ما رأيت بعض الباحثين كتب في تدوينة له عن ثقافة المقاومة.
شأن هذا الشور شأن صنوه الجميل "قولو قولو" وهو أيضا شور تنبدغيّ، بل لم يشتهر إلا على يد فناني تمبدغه وخاصة "سيدي ولد دندني" الذي يقول له فيه الأديب سيدي ولد الطلبه رحمه الله:
سيدي من مزال اسْغَيّير * حسُّ زين وكيف هولُ
تزول الجبال يغير * الطّباعُ لا تَزولُ
وقد تطفلت فيه على الموزون مرة فقلت للأستاذ اماكه:
نشهد من شي حَقْ واتْوْفْ * ما هو بهتان ولا فُضُولُ
عن ذا هو الهَوْلْ المَوْصُوْف * وابْفُروعُ وابْأُصُولُ
ومن هذا الباب المتعلق بتفاعل المجتمع مع نازلة المستعمر، مما حمله الفنُّ وخلده، أبيات نادرة للمرابط محمدُ السالم ولد الشّين رحمه الله في نقد تغيرات الواقع بتأثير المستعمر، ولم أسمعها إلا في محفوظات موصليّ زمانه، "ولد عو" رحمه الله:
"سقيا ورعيا" لعهد للشريعة لم * يُبْقٍي له طللا عواصف مورُ
غارت على دينها الميمون عاقبة * دراهمُ الروم في دهماء، تأمُورُ
ولم أستبن باقيها لرداءة التسجيل وطبيعة الحكاية، ولعل تأمورُ أصلها تأمُرُ، من باب إشباع الضمة على حد قول الشاعر:
وأَنَّنِي حَيثُما يَثنِى الهَوَى بَصَرِي ... مِن حَيثُما سَلَكُوا, أَدنُو فأنظُورُ.
ومما رأيته من أدب المنطقة في الشكوى من المستعمر، أبيات توسلية للعالم البركة سيد امحمد ولد أحمد معلوم رحمه الله يشكو من أحد أعوان الإدارة اسمه "قربا" Garba– وجدتها بخط تلميذه الشيخ العلامة محمد بن المحفوظ بن دهمد رحمه الله:
قربَ فسادهُ من أعظمِ الفَسَادْ * فردّهُ عنا يا خالق العبادْ
فأنت تبغض الفساد في البلادْ * فأهلكنّه كما أهلكتَ عادْ
للظرف يأخذ وما به من زاد * يأخذ للثور الطّريف والتلادْ
يأخذ للحرّ وللقِنِّ الصّراد * خيِّب إلهي ربَّنا له المرادْ