إملاءات صندوق النقد الدولي والتنكر للسيادة
عاد صندوق النقد الدولي (FMI) ليُوصي موريتانيا مجددًا بتسريع رفع الدعم عن المحروقات.
وفي معرض بيانه، وبأسلوب دبلوماسي لا يخلو من التلميحات المبطّنة، لم يتردد في الإيحاء بأن البلاد تفتقر إلى النزاهة والمهنية والانضباط عند نشرها لأرقام النمو، والتضخم، والعجز المالي للدولة.
ومن خلال العبارات اللطيفة لخبراء الصندوق، وتحت شعار «الإصلاحات المالية»، تتبدى حقائق قاسية، إذ تقول هذه المؤسسة العريقة في جوهر خطابها ما معناه:
أنتم لستم جديرين بالثقة، وقد فشلتم في واجب قول الحقيقة، وستدفعون ثمن ما تغافلتم عنه، عاجلًا أم آجلًا.
وعلى المواطنين أن يتحملوا فاتورة الاختلاسات، وسوء التسيير، والتحويلات غير القانونية، وتضارب المصالح، وسائر الاختلالات الناتجة عن سلوك طبقة فاسدة، كشفتها بوضوح محكمة الحسابات والمفتشية العامة للدولة.
يتحدث الصندوق عن تقليص العجز العام، وترشيد النفقات، واستدامة الطاقة، دون أن يجرؤ على تحميل المسؤولية لمن اتخذوا القرارات الخاطئة التي قادت إلى هذا الوضع.
لكن المعنى واضح للجميع: ثمن «الإصلاح» سيكون ارتفاعًا في أسعار الوقود والغذاء والنقل إلى مستويات تفوق قدرة أصحاب الدخل المحدود، أي حياة من الحرمان المفروض على الغالبية.
II. شهادة على الفشل
بمجرد ارتفاع سعر لتر البنزين أو المازوت، تنهار سلسلة النشاط الاقتصادي برمتها.
يرفع سائق التاكسي أو الشاحنة أسعاره، فيتبعه التاجر وربما يسبقه، وتشتري ربة البيت كميات أقل، ويتردد الفلاح في نقل محاصيله، ويترك الصياد قاربه عند الشاطئ.
فيتحول الإصلاح إلى عقوبة جماعية.
وفي بلد لا يكفي فيه الحد الأدنى للأجور لتغطية نفقات أسبوع واحد، فإن مثل هذا القرار يعني خنق الفقراء حرفيًا.
الفقراء جدًا، والعمال غير النظاميين، والموظفون، والشباب العاطلون عن العمل، جميعهم سيتأثرون بقسوة منطق الرأسمالية: فحين يتوقف العرض والطلب عن التوازن، بفعل غياب تدخل الدولة الراعية، تستقر الهشاشة، وتعمّ المجاعة، ويتآكل السلم الاجتماعي.
ما يُقرّه صندوق النقد الدولي، ينفذه حكامنا دون نقاش.
الصندوق «يقترح» ونواكشوط «تُنفذ».
فأين تبقى السيادة والكرامة الوطنية؟
في حين تحصل المغرب وتونس على مليارات الدولارات، تمد موريتانيا يدها لتطلب بالكاد مئة إلى مئتي مليون دولار، كصدقة.
ولماذا؟ لأن شركاءنا فقدوا الثقة في نظام النهب الذي تمثله الدولة في نظرهم اليوم.
إنهم يرون التلاعب بالأرقام، والمشاريع المتعثرة، وسوء الإدارة، والتزوير في الوثائق، والفساد، وانعدام الشفافية.
والأمثلة على المشاريع الوهمية كثيرة.
ونذكر من أبرزها:
مشروع آفطوط الساحلي: 900 مليون دولار أُهدرت في مشروع أصبح رمزًا للهدر الوطني والعطش الموسمي في قلب العاصمة.
ميناء ندياغو: 400 مليون دولار صُرفت في بنية تحتية غير مكتملة وقليلة الاستخدام اليوم.
III. أسباب النهوض
في موريتانيا، يُعمم الخطر وتُخصخص الأرباح، فيدور محرّك التراجع بسلاسة عجيبة.
ويُقام بذلك تناقض في مسار التنمية، إذ ترتفع ثروات الأقلية بقدر ما يزداد فقر الأغلبية، في مشهد يتحدى كل دروس الاقتصاد الحديث.
ولكي نكون واضحين: نحن لا نرفض الإصلاح، لكننا نرفض عماه وانتقائيته القاسية.
الإصلاح والتصحيح مرحّب بهما، ولكن ليس ضد الأغلبية، ولا من دون التشاور، ولا بمعزل عن مبدأ المساءلة.
بعيدًا عن الشعبوية، فإن قول «لا» عندما تتعارض الإملاءات الخارجية مع المصلحة العامة للشعب الموريتاني، هو واجب وطني وحسابي في آنٍ واحد.
يجب التحلي بالشجاعة للتفاوض بشدة، لتفادي قيود الغد.
يقتضي الاستخدام الرشيد للسلطة، وهو جوهر النبل السياسي، أن تُمنح الأولوية للفئات الضعيفة، الأغلبية العددية، لا أن تُحمَّل أخطاء الأقوياء.
صندوق النقد الدولي ليس حكومة، ولا شعبًا ذا سيادة، ولا قانونًا للجمهورية.
دوره هو المشورة، لا الأوامر.
أما وظيفة الدولة الكريمة فهي حماية المواطنين من الشقاء، وضمان تكافؤ الفرص في طريق الازدهار.
فرض المعاناة باسم الانضباط المالي ظلم سافر، لأن أصل الأزمة ناتج عن مسؤولين جشعين أو فاسدين أو عاجزين، بل وربما مصابين بكل هذه العلل مجتمعة.
IV. الدائن الذي يقود مدينه إلى الانتحار
في زمن التضليل الإعلامي الشامل، وعولمة القيم، وصعود جيل «زد» المفاجئ، أصبح تدبير شؤون الدولة يحتاج إلى قدر كبير من الحكمة وبعد النظر.
ومن هنا تأتي ضرورة القراءة والملاحظة الدقيقة والتعلم المستمر.
السياسة، في عصر الأزمات الاتصالية، تتطلب تكيفًا دائمًا مع المستجدات وفهمًا للمخاطر.
لكن، مع بعض الاستثناءات النادرة، فإن أغلب النخب الحاكمة في القارة لا تملك هذه المؤهلات.
وموريتانيا ليست استثناءً من هذه الهشاشة.
العلاج الذي يفرضه الصندوق اليوم نابع من اختلالات واحتيالات غير معاقب عليها في قمة الدولة.
ويجد المقرضون الدوليون العذر لأنفسهم بوجود منظومة داخلية من الاحتيال والمراوغة تُبقي على رأسمالية الريع والكسل، التي تتغذى منها منظومة السيطرة العالمية.
أما خطيئة الشركاء الخارجيين، فهي لا تقل جسامة، إذ تكمن في قبولهم الضمني، بل وتكرارهم، للتجاوزات منذ عام 1978.
كم مرة هرع هؤلاء «المنقذون» لإنقاذ موريتانيا من إفلاس تم تمويله بأموالهم أنفسهم عبر قروض الصندوق والبنك الدولي؟
V. حقيقة بسيطة يجب أن نتذكرها
هناك حقيقة بسيطة تستحق التذكير: الحكم مسؤولية قبل كل شيء، ومسؤولية الحاكم الأولى هي الحماية.
حماية المواطنين من الجوع، ومن الظلم، ومن نتائج السياسات الجائرة.
والحماية تعني مقاومة الإملاءات الخارجية، وإحياء العدالة الاجتماعية، ووضع المصلحة الوطنية فوق التواطؤ والخوف.
بقلم: بيرام الداه عبيد، نائب المعارضة المناهضة للنظام
11 نوفمبر 2025



