حتى لا تسقط باماكو

بواسطة ezzein

د. معمر محمد سالم أستاذ بجامعة نواكشوط

تستدعي التطورات الأخيرة في منطقة الساحل والصحراء، خصوصا في دولة مالي، تفكيرا جدَيا في تداعياتها على المنطقة، خصوصا موريتانيا، وسنحاول من خلال هذه المساهمة إثارة أسئلة قد تسلَط الضوء على بعض التَحديات الاستيراتيجية للوضع الأمني في دولة مالي المجاورة.
بدت الانقلابات العسكرية ذات النزعة الثورية لأول وهلة في دول الساحل، تجسيدا للتأثيث النظري لكتاب Nations negres et culture  " الأمم النزجية و الثقافة"  للشيخ أنتا جوب، إضافة لإسهامات كل من  ماير فورتس و جورج بالانديه، الذين أوقفا الإنسان الإفريقي على قدميه على حد تعبير ماركس في محاولته تقويم الهيغلية.
وقد رأى الجيل الجديد في إبراهيما تراوري، وهو يتمشى أمام الأضواء، قبسا من ثورية تاماس سنكارا، الذي اغتالته يد الغدر قبل أن يحقق بعضا من حلمه الإفريقي.
لكن سرعان ما تجلى أن الثوريين الأفارقة الجدد، لم يؤسسوا لإديولوجيا ذات نسق فلسفي متماسك، معاد للمد الابريالي، بل تخللتها أصوات تدعو إلى طرد العرب المسلمين من شمال إفريقيا بدل طرد الاستعمار الغربي من بلدان الجنوب!
وقد أعطت هذه الأصوات إشارات خاطئة لسكان شمال إفريقيا من العرب، خصوصا دول المغرب العربي.
ثم إن تحالفات الثوريين في دول الساحل مع الروس كانت نفعية ولم تكن مبدئية، لذلك انسحبت "فاغنر" حين أصبح الاستحقاق جديا، لأن الحافز العقائدي هو ما يدعو للصمود، لذلك كان المجاهدون في جيش عمر المختار يعقلون أنفسهم بأنفسهم كي يموتوا في أماكنهم! وبنفس روح التضحية والفداء يتلقى الفدائيون الفلسطينيون لمركبات العدو بصدورهم العارية وإرادتهم الفلاذية، وذاك هو زهو الموت في سبيل القضية العادلة.
حين ذهب الجنود الأمركيين لغزو العراق وإسقاط نظامه الوطني، كان كل واحد منهم يحمل نسخة من كتاب " فن الحرب" للاستيراتيجي الصيني سون زو، كنوع من التنظير العقلاني لحربهم الصليبية، وحين شرع حلف الناتو في غزو ليبيا عام 2011، كان يستعرض أمجاد الرومان وملاحمهم فأُطلق على الحرب " فجر الأوديسا" والأغرب من الخيال أن بعض العرب كانوا يرقصون على أنغام الأوديسا!
في المقابل جاء مرتزقة "فاغنر" يبحثون عن حفنة من الذهب وفي سبيل البحث عن مجرد ذهب، تصبح المحافظة على الحياة أغلى من الذهب!
حين ينتفي الدافع المبدئي يكون الرحيل هو الهدف، لذلك يذكر أحمدو عبد الله في مذكراته المعنونة ب "" الموت و لا الدناء" أن صحفيا أمريكيا سأل ضابطا فرنسيا كيف تمنحون البيظان استقلالا و هم لا يعملون، فرد الضابط الفرنسي " معك حق، فالبيظان غير نشطين..لكن لا يهم إن كانوا جاهزين أم لا، لأننا نرغب في الرحيل".
هذا الحافز العقائدي تجسده مساعي "حركة ماسينا" لإقامة دولة للفلان، تستدعي تجربة تاريخية ثرية هي تجربة الشيخ آمدو، مؤسس إمبراطورية ماسنا الفلانية، التي تأسست على تخوم موريتانيا و امتدت لخاصرتها الشرقية.
المعارك الاستيراتيجية لا تخاض داخل الحدود، بل خارجها، قبل أن يسقط الفأس على الرأس، لذلك تخوض أوروبا حرب استنزاف ضارية ضد روسيا لضمان بقاء النظام الأكراني قائما، فهو جدار أوروبا لصد التمدد الروسي.
ـ القابلية للتصدير
حتى لو افترضنا جدلا أن عاصمي كويتا ورفاقه بمالي ليسوا وديين تجاه موريتانيا، فإن تأثيرهم لا يتجاوز حدود مالي، فنظامهم نواته الاجتماعية الصلبة لا أظافر لها تمدها إلينا على حد تعبير جورج حبش، بينما لتنظيم "ماسينا" قابلية للتَمدد " جهاديا " في كل المنطقة و يمكنه تحويل بعض الفلان إلى حاضنة شعبية له في منطقة الصحراء و الساحل.
لذلك ينبغي أن لا يحجب المزاج السيئ للحاكم العسكري بمالي "عاصمي كويتا " الأهمية الاستيراتيجية للاستقرار بدولة مالي، فأمن موريتانيا يبدأ من باماكو ... فليس "للبمبرا" امتدادات داخل موريتانيا، فهي قومية منكفئة على نفسها، تنشد المحافظة على موطئ قدم على الخريطة، و لا تملك خيارات أخرى، و هو ما يخفف من مخاطرها الاستيراتيجية و في نفس الوقت يمنحها القوة، فحين نزل الغزاة الفرنسيون مصحوبين ببعض الرماة السينغاليين بآدرار، نزلوا  بين فكي الماء و النخيل، فأيقنوا أن أمير البلاد لن يبرحها إلا قتيلا أو أسيرا، و قد صدقت فراستهم.
ـ الاعتراف بالحكم الذاتي لأزواد
لم يعد تجاهل الحراك الأزوادي المكثف منذ 1963 ممكنا ولا مواجهته بالقمع ممكنا، لذلك فليس أمام المجلس العسكري في مالي سوى منح أزواد حكما ذاتيا استجابة للمطالب التاريخية للطوارق ولتحييد جبهة الشمال والتفرغ لمجابهة القاعدة والمتناسلين منها.
وهذا الخيار ينبغي لموريتانيا تسويقه ودعمه بقوة دبلوماسيا، إذ ليست له تداعيات سلبية على البلد، خلافا للحركات القتالية التي لديها قابلية للتصدير إلينا، سواء من خلال التعبئة الجهادية الموجهة لعموم المسلين أو من خلال امتدادات حركة " ماسنا ".